لحظــــــــات ساحــــــــــــرة
طرقت بابها برفق .. لم أسمع ردا .. فتحته بهدوء ودخلت .. نظرت لها وهى تحدق بشرود فى الفراغ .. تنحنحت لأنبهها لوجودى .. لكنها مازالت على شرودها تحدق فى لا شىء .. جلست ببطء على طرف فراشها أتأملها .. على الوجه المتغضن بقايا جمال كان رائعا فى يوم ما دون شك .. يقاوم بشموخ أيادى الزمن التى تصر على حفر بصماتها عليه .. تفاصيل وجهها راقية كأميرات قصور الحواديت .. تخيلت أنى أراها وهى ترفل فى ثوبها الواسع وتجر ذيله على الأرضيات الفخمة اللامعة .. تخيلت بريقا يتلألأ فوق موجات شعرها الحريرى المصفف بعناية متناسقا تماما مع بهاء تاجها الثمين .. تخيلت قصرها الشامخ وحديقته الفسيحة .. رأيت ترقرق المياة الصافية المنسابة بنعومة لتكمل لوحة رائعة تخلب الألباب .. لفنى عبق عصور ساحرة ولت قبل أن أوجد .. تنفست عبير أزمان بعيدة لم أعرفها إلا من حكايات جدتى .. كان وكان وكان .... كلها ذهبت ولن تعود .. كم تمنيت أن أكون إحدى أميرات القصور التى تنسج من حولها الحكايات ويحارب لإنقاذها الفرسان وتحظى دائما بالنهايات السعيدة .. قاطع أحلامى صوتا هادئا أخرجنى من صفحات كتاب الحواديت وألقى بى على أرض الواقع .. انتبهت لها وهى ترمينى بنظرات متسائلة .. انتفض جسدى من فوق عرشها .. أقصد فراشها .. ارتباكى يرسم ابتسامة مترددة على شفتى .. وانكسرت نظرة عينى تعتذر بصمت عن تطفلها .. "ماذا تفعلين هنا؟" سألنى الصوت الهادىء .. ترددت نبرات صوتها فى أسماعى كتغريد طائر حزين فى بلاد بعيدة .. ازداد ارتباكى ولم أعد أتذكر ما جئت من أجله .. لا يمكن أننى قد جئت لأحلم فوق طرف فراشها .. وأرحل عبر عينيها إلى أزمان بعيدة .. فجأة انتبهت لما بين يدى إنها علبة دواء .. تنهدت فى ارتياح وأنا أقول " إنه موعد قرص الدواء" مسحتنى بعينيها كأنها ترانى للمرة الأولى .. قبل أن تشيح بوجهها عنى فى كبرياء صامت .. اقتربت منها بحذر وأنا أمد يدى بقرص الدواء محاولة رسم ابتسامة على وجهى .. وجدتها ذهبت فى شرودها مرة أخرى .. تسمرت مكانى كتمثال من الشمع خشيت أن أخرجها من ذكرياتها .. لعل مع من كانت تحبهم ويحبونها .. وتركوها تعانى وحدتها القاسية .. أشعر أنها مازالت تعيش فى عالمها الخاص .. وتمنيت أن تجذبنى معها فى هذا العالم الساحر .. مرت لحظات وهى تغيب عن عالمنا وأغيب معها .. وأخيرا التفتت إلىّ ومدت يدها لتتناول قرص الدواء فى استسلام .. ربتت عيناى على ملامح وجهها النبيل .. جاهدت للدخول إلى خبايا عقلها .. تمنيت لو عبرته إلى صندوق ذكرياتها الذى تغلقه بإحكام رافضة أن يطلع على مافيه أحد سواها .. انتبهت على نظرتها من جديد .. حاولت جذب عيناى بعيدا حتى لا تغوص مجددا فى بحر عينيها الفيروزى وتنقلنى أمواجه الهادئة إلى بلاد لم أزرها وأصافح وجوه لم أعرفها وأحيا فى زمان لم أعيشه .. ها قد عدت للغرق فى بحار عينيها السندبادية .. جاهدت لأطفو مرة أخرى على واقعى .. فلم يعد هناك داع لوجودى داخل حدود مملكتها .. وعلى أن أخرج من كتاب الحواديت الآن .. جررت قدماى نحو الباب وقلبى يغوص حزنا لانقضاء لحظاتى الساحرة .. التفت لألقى نظرتى الأخيرة عليها وهى تغوص فى عالمها الخاص وتبحر فيه بعيدا عن هذه الأرض .. خرجت من حجرتها وأغلقت بابها برفق وأنا أفكر .. متى سيحين من جديد موعد قرص الدواء ؟ ...
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
اسم الموضوع : لحظــــــــات ساحــــــــــــرة
|
المصدر : الروايات