النبي صلي الله عليه وسلم ❤ حب دون غلو ودفاع حتي الموت

[راجيه الرضا]

أزعم أن من دلائل النبوة الظاهرة، هي تلك المنزلة الدقيقة التي أنزل فيها الصحابة رسولهم صلى الله عليه وسلم، دون غلو وإفراط، ولا تقصير وتفريط.

جزيرة العرب لحظة البعثة كانت بيئة وثنية بامتياز، تتأسس عقيدتهم على فكرة الغلو في الصالحين واتخاذهم شفعاء، وبذلك جعلوا لله الأنداد.

يأتيهم محمد بن عبد الله، فيبلغون به من الحب ومن التعظيم ما لم تعرفه البشرية قبله قط.

غاية الحب هذه مع غاية التعظيم تشكّل في الوجدان عاطفة لو لم تنضبط بوحي من السماء لأنتجت شركا وتأليها للمحبوب بلا ريب!

ليس هذا فحسب، بل إنهم إذ عاشروه وجدوا السنن الكونية تنخرم بين يديه، وخوارق العادات تؤيده كل حين، مع نبوءات بالغيب تصدق كفلق الصبح!
في ثقافة عربية وثنية مؤمنة بالخرافة: فقد كان الأمر خطيرا جدا، وكان اتخاذ النبيَ ندًا مع الله واردًا جدا، مهيأةً له كل الأسباب.

استلزم ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بالمرصاد لأي بادرة إشراك، ولو شديدة الخفاء.

يقول أحدهم تعظيما له وحبا: "ما شاء الله وشئت"، فيهرع إلى غلق الباب فورا، ويقول: (أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده).

وبين ظلمة نفي الرسالة (إن أنتم إلا بشر مثلنا) وظلمة تأليه الصالحين (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، انبجس نور مفهوم "النبوةفي تصور سهل واضح لكنه حاسم (قل إنما أنا بشر مثلكم..يوحى إليّ)!

تطلبت هذه الممنزلة الدقيقة عشرات النصوص التي تعظم النبي وترفع مقامه، في مقابل عشرات النصوص التي تقرر عجزه عن النفع والضر، وتنفي عنه علم الغيب وتنزله منازل البشر.

يقول لهم (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، ثم يوصد باب الغلو فيقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم).

(أنا الحاشر...أنا الماحي...أنا العاقب)، ثم: (إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد)!

(لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)، بينما يدخل أعرابي مجلسه فلا يميزه، ويسأل: "أيكم محمد؟!"

بهذا التكامل بين نوعَي المواقف والنصوص، انتظمت هذه الفكرة الدقيقة للغاية في منظومة معجزة أنتجت هذا الاعتقاد الفريد، عند قوم توارثوا الوثنية أبا عن جدٍ، ولم يكونوا ليؤمنوا أن بشرا يُمكن أن يُبعث رسولا أبدا!

لذا لم يجد هذا الجيل من عُسرٍ في أن يواصل الطريق ذاته بعد وفاته.

فأصحابه الذين كانوا يتسابقون على فضل وضوئه حبا وتبركا، هم من أهالوا عليه التراب يوم مات، واختاروا خليفته في ذات يوم وفاته!

صاحبه في الغار يُفجع بموته، ثم على الفور يُنفذ جيش أسامة، ويُجيش الجيوش فيُخضع جزيرة العرب وقد ارتدت.

وعمر الذي ما كاد يصدق أن النبي قد مات، يتحمل المسئولية من بعده فينهي ملك فارس ويدك حصون الروم!

كان هذا تطبيقا عمليا لهذه المنزلة بعد وفاته، ودليلا على عظمة الدين الخاتم الذي بلغه رسول الله، ثم مات، وحمل الراية أتباعه من بعده، وإيذانا بأن نصرة الدين والتمكين للأمة لا يتوقف على وجود شخص أيا من كان، ولو كان رسول الله ذاته!

هذا المنهج الفريد لا يستطيع وضعه بشرُ قط، فضلا عن أن يكون أميا، لم يقرأ عن النبوات، ولا عرف قومه أصلا من قبل مفهوم "النبي" منذ زمان إسماعيل عليه السلام.

ونحن اليوم، نعظّمه ونحبه ونغار على مقامه، مع أننا لم نر له تمثالا شاخصا، ولا صورة زيتية معلقة في ميدان، وبهذا نزداد للحظة لقائه شوقا، يوم نرى عند الحوض حسن طلّته، وبهاء وجهه، فاللهم بلغنا!