ماذا يعني دخولُ الإنسان في الحالة الإنباتيّة؟ حالةٌ عجيبة!

[راجيه الرضا]

~ في 25 شباط، عام 1990، فقدتْ تيري شيافو -البالغة من العمر 26 عامًا- وعيَها في شقّتها في ولاية فلوريدا، واستدعى زوجُها مايكل شيافو المسعفين، لكنّه لم يقم بالإنعاش القلبيّ الرئويّ. وإلى أنْ وصلتِ المساعدة كانت تيري تعاني من نقصٍ في الأكسجة. أنعشوها ولكنها لم تستردّ وعيها مطلقًا. كان توقُّفُ قلبها ناتجًا عن اضطرابٍ في شوارد دمها، والذي قيل إنّ سببَه هو معاناتها من فقد الشهيّة العصبي -وهو أحد اضطرابات التغذية- (احذروا من الحميات غير المضبوطة).
شُخِّصَت تيري فيما بعد بأنّها تعاني من #الحالة_الإنباتية_الدائمة، وبقيتْ على هذه الحالة ١٥ سنة إلى أن تقرَّر فصلُ أنبوب التغذية عنها، فماتت بعد جدلٍ قانوني وأخلاقي كبير.
~ المجرم أريل شارون مثالٌ آخر معروفٌ عند الجميع، حيث دخل في الحالة الإنباتية الدائمة بعد سكتةٍ دماغية، واستمرَّ على هذا الحال ٨ سنين دخل خلالها في العديد من الاختلاطات إلى أن مات أخيرًا.

فما هي الحالةُ الإنباتية؟ هل هي غيبوبة؟ وما سببها؟ وما مآل المصابين بها؟
~ الحالة الإنباتية "vegitative state" ليست غيبوبة، حيث يكون الشخص يَقِظًا ولكنه لا يبدي أيّ علاماتٍ عن الوعي، بحيث يصير كالنبات، فهُو:
- لا يُظهر دليلًا عن إدراك الذات ولا البيئة.
- لا يستطيع التفاعل مع الآخرين.
- يغيب عنده الفهم والتعبير اللغوي.
- لا يُبدي أيّ استجابةٍ ذات مغزى، ومثال عن هذه الاستجابات هو: متابعة شيءٍ أمامه بعينيه أو الاستجابة للأصوات أو القيام بحركات تعبيرية.
#ولكن مريض الحالة الإنباتية:
- يفتح عينيه. (رغم أنّه فاقدٌ للوعي)
- يستيقظ وينام وفق فواصل منتظمة.
- لديه المنعكسات الأساسية: كأن يطرف عينيه عندما يُفاجَأ بصوت عالٍ أو يسحب يده عندما يُكبَس عليها بشدة.
- تنتظم ضربات قلبه وتنفسه دون مساعدة.
- يبقى منعكس التثاؤب عنده وأحيانًا نطق الأحرف الحلقية.
- يبقى إدماع العينين أحيانًا.
- يُظهر الابتسامة أو العبوس.
- يحافظ على حركات العينين التلقائية.

أي كأنما سُلِب العقل والتفكير، وبقي الجسد بمنعكساته عبارةً عن كيان خلوي يعمل، وكأنه دميةٌ مبرمجةٌ للقيام ببعض المنعكسات.
--------------------------------------
ولكن ما #سبب انتقال المرء إلى الحالة الإنباتية؟
السبب هو التعرُّض لأذيةٍ دماغيةٍ ناتجة عن الرّض trauma أو نقص الأكسجة؛ فتتضرّر القشرة المخية بشدّة؛ مما يزيل الوظيفة الذهنية، ولكن الجهاز الشبكي (في جذع الدماغ brain stem) يبقى وظيفيًا فتبقى اليقظة ممكنة، وتبقى وظائف البصلة medulla سليمة أيضًا فتدعم الوظائف اللاإرادية والقلبية التنفسية الكافية للبقاء قيد الحياة إذا توفّرت العناية الطبية والتمريضية.
وننوّه إلى أنّ المريض قد ينتقل من مرحلة السبات ليدخل في الحالة النباتية؛ والتي تخالف السبات coma في كونها: تُظهر دورةً طبيعية من النوم والاستيقاظ ويفتح فيها المريض عينيه ويستطيع القيام بحركاتٍ عينية.
--------------------------------------
هل هناك #علاج للحالة؟
لا يمكن تقديم شيء إلا العناية الداعمة، وذلك بِـ:
- الوقاية من الاختلاطات الناتجة عن عدم حركة المريض، أي الوقاية من حدوث ذات الرئة أو الخمج البولي أو الأمراض الخثرية.
- التغذية الجيدة عبر أنبوب يوصَل للمعدة.
- الوقاية من قرحات الضغط (التي تتشكل نتيجة الاضطجاع الطويل).
- المعالجة الفيزيائية لمنع انكماش الاطراف.
--------------------------------------
حسنًا، وما #مصير المرضى؟
قبل ذكر مصيرهم ينبغي معرفة أنّ الحالة الإنباتية تأخذ وصفَ:
> المستمرة persisting: إذا استمرت أكثر من 4 أسابيع.
> أو الدائمة permanent: إذا استمرت لأكثر من 6 أشهر (إذا كان السبب أذية دماغية لا رضية) أو لأكثر من 12 شهرًا (إذا كان السبب أذية دماغية رضية).
~ وقولنا إنّ الحالة مستمرة لا يعني أنها عجزٌ دائم؛ لأنه وفي حالاتٍ نادرة جدًا (كما بعد الأذية الدماغية الرضية) يمكن أن يتحسّن المرضى ويصلوا إلى بعض الوعي أو حتى إلى درجاتٍ عاليةٍ منه. كما يكون التعافي في الحالة الدائمة بعيد الاحتمال للغاية ولكنه ليس مستحيلًا.
يختلف المآل حسب السبب و المدة: فمآلٌ أفضل إذا كان السبب حالةٌ استقلابية قابلة للعكس (كما في اعتلال الدماغ السمي) مما هو عليه في حال كان السبب موتًا عصبيًا ناتجًا عن نقص أكسجة أو إقفار شديدين.
اذا استمرت الحالة فإنّ معظمهم يموتون خلال 6 أشهر من الأذية الأصلية، وغالبًا ما تكون الوفاة بسبب خمجٍ رئوي أو بولي أو بسبب قصور (فشل) أعضاء متعدد أو بشكل مفاجئ.
أما بالنسبة للبقية فإنّ توقع الحياة هو 2-5 سنوات، وإنّ 25% من المرضى فقط يعيشون أكثر من 5 سنين، وقلة يعيشون لعقود.
وأخيرًا... توجد في الأدب الطبي العديدُ من القصص الحقيقية عن الحالة الإنباتية؛ منها حالات شُفيَت، ومنها ما استمرت لعقود على هذه الحالة قبل أن تموت، وأخرى قرر ذووها فصل أنبوب التغذية عنها، وجميعها قصص تنبّئنا بذلك السرّ العظيم والمعجزة الكبرى الموجودة في قشرتنا المخية؛ التي إن تأذّت نفقدْ وعينا وإدراكنا لما حولنا ويدخلْ الإنسان في حالة يشبه فيها النبات فيتنفّس ويتغذّى ويستجيب لتغيرات البيئة ولكن بلا وعي ولا حركة. فسبحان الخالق الذي تَحار العقول في صنعه، وعجبًا لإنسانٍ يتجبّر ويرفع عقله ورأيه على أمر الله بينما ضربة من حجر في الأرض قد تجعله بلا وعيٍ ولا تفكير مطلقًا.
دمتم متمتعين بفضل الله شاكرين لأنعمه.

إعداد: د. ميسم حمشو.
مراجعة: د. ندى خالد.
مراجعة لغوية: رند حمشو.​

الباحثون المسلمون