كيف يسرِّب “البلوجرز” السخط إلى حياتنا.. وكيف ننجو؟

[راجيه الرضا]

"فوتوسيشن" في غرفة النوم قبل الزفاف، وثانٍ في أثناء الميك أب، وثالث مع الصديقات قبل العُرس، ورابع لحظة رؤية العريس، وخامس في الطريق، وسادس في موقع مخصص للتصوير، وسابع في الوصول إلى القاعة، وثامن خلال فقرة الرقص السلو، وتاسع خلال فقرة الرقص المحموم مع الصديقات والأصدقاء، وعاشر في نهاية اليوم ربما مع المصور نفسه، تلك عشرةٌ كاملةٌ لا يتم عُرس واحدة من "البلوجرز" إلا بها.
الفكرة ليست في التصوير نفسه ربما، وإنما في نشر ذلك كله، العالم الحقيقيّ ليس إلا شيئاً على الهامش، العريس، والعروس، والمعازيم، والأهل هنا وهناك، ليسوا إلا شخصيات في ستوريز، إن لم يظهروا فكأنهم لم يحضروا أصلاً، ولو انقطع الإنترنت فجأةً ربما، فلا بد أن نعطل الزفاف حتى يعود، لأن المتابعين لا بد أن يحضروا، أن يعرفوا كل التفاصيل.
لا أعلم وقتاً محدداً لبداية تلك الاختراعات الجديدة، لكنها تأتي في سياق الاختراع العام، فكرة "الإنفلونسرز" الذين لديهم مئات الآلاف يتابعونهم، ولا بأس أن يتابع الملايين محتوى ما، ولكن أن يتابعوا شيئاً فارغاً؟ بمعنى آخر، لا بأس أن ينظر الخلق جميعاً إلى السماء لمراقبة القمر، لمتابعة ظاهرة كونية ككسوف الشمس، لمشاهدة سربٍ من الطيور حتى، لكن أن يحدّق مئة ألف شخصٍ بالسماء فجأةً ويظلوا معلقين أعناقهم بها؟
الأمر يشبه أن ترى رجلاً في الشارع يلتفتُ فجأةً، ستلتفت أنت الآخر لتجد أنه لا شيء، ويراك غيرُك فيلتفتون مثلك، وهكذا، ولن تقف الدائرة المفرغة في نقطة محددة إلا حين يتوقف الجميع عن النظر، ويكملون طريقهم، في هذا الوقت أيضاً، سينتبه "الإنفلونسرز" (بمعنى الكلمة الحالي)، أنهم لا يقدمون شيئاً، وأن انصراف الناس عنهم ليس إلا لحظة استفاقة، لأن التفات الناس إليهم لم يكن إلا لحظة سرَحان.​

ماذا يقدمون ولماذا يتابعونهم؟

ادخل إلى صفحةِ أيٍّ منهم، حاول أن تعثر على شيءٍ ما، قد ينفعك بأي نسبة، في الغالب- وأتمنى أن يخيب ظني- لن تجد، ستعثر فقط على صور، فيضان من الصور، شلال غزير من الفيديوهات القصيرة، واحد في مطعم، والآخر في مقهى، والثالث في منتزهٍ يصعب على أمثالك الذهاب إليه، وفيديوهات للضحك مع الأصدقاء، وفيديوهات لعيد الميلاد، وثانٍ أيام عيد الميلاد المبارك، وثالث أيامه، وقاعة وحضور، وفستان تظنه فستان زفاف، وهدايا ستجعلك تلعن الهدايا التي يجلبها لك أصدقاؤك. ربما سترسل إليهم الرابط، وتقول: "شايفين الهدايا يا عرر؟".
الفراغ يمتلئ حتماً، وليس معنى أنك لا تملؤه بشيء أنه ظل فارغاً، ستتفاجأ أن الفراغ يمكنه أن يزدحم، بالفراغ أيضاً، لا قيمة، ولا محتوى، ولا تأثير، ولا شيء إلا اللاشيء.
كذلك لأن الإنسان يحب مشاهدة المثالية، عالم مثالي، من فتاةٍ بجمال مثالي، وفستان مثالي، وأصدقاء مثاليين، وحينها ستنتظر أنت- أكثر منها- لترى حبيبها المثاليّ، الذي سيعقد لها عُرساً مثالياً، بحفل تصوير مثاليّ، ومراسم احتفال تفوق أميرات المملكة المتحدة، وخلف هذا كله مصاريف باهظة، تتكبدها الشركات المراهِقة، التي تُهدي لهؤلاء ما يريدون ترويجه، والجمهور لن يشتري، لأنه بوضوحٍ وصدقٍ شديدين "داخل يتفرج" وفقط.​

وبعدين؟

ستفكر الفتاة في ذلك اليوم، الذي تعقد فيه عُرسها، ستتخيل فتى الأحلام، قادماً في سيارةٍ فارهة، يرتدي ساعةً تكاد تشعّ نوراً يرسم ثمنها على الجدار المقابل، ويطلبها في "ستوري" أيضاً، يعلن به خطبتهما، ولا تدري أن الرجل غالباً سيكون عائداً من العمل، بقميصٍ منهَك من شد وجذب الركاب، معلقاً في سلالم أتوبيس النقل العام، أو جالساً على الكرسي القلاب في ميكروباص يمضي نصف عمره في الزحام، في أحسن حال.
وهذا الرجل، لا بأس به أبداً، بل قد يكون نعم الرجال، لكن لا علاقة له بالصورة التي ترسمها الفتاة في ذهنها، وهي أيضاً من مستوى اجتماعي مقارب له، لكنها عقدت العزم ألا تقبل أقل مما قبلت به هذه الـ"إنفلونسر"، وتتمنى عرساً مثلها، وصوراً مثلها، وهاتفاً يمكِّنها من التصوير بتلك الجودة، مثلها.
والحقيقة أن هذا يسرّب السخط إلى حياتنا شيئاً فشيئاً، لأنك تعيش في هذه الدائرة، (دائرة ستوري الإنفلونسر)، لا تخرج منها إلا إلى واقعك المزري، فتقارن بين سريره وسريرك، وتقارنين بين مستحضرات تجميلها وجمالك، وترضين بعيش الكفاف، لا عن رضا، وإنما عن سخط، وقلة حيلة، وقصر يد، وتتمنين لو أتيح لك ما أتيح لها، لتتحولي في نظر الأخريات، ونظر نفسك على الأقل، إلى "إلَهٍ" مثلها، إله عبارة عن صنم، يسجد له الذين لا يريدون أن يفكروا دقيقةً في الحقيقة، وفي مدى زيف الذي أمامهم.
حتى هؤلاء الذين يشاهدون ذلك كله من باب التسلية، يظنون أنهم فوق التأثر، والحقيقة أنهم متأثرون، لدرجة أنهم ينفقون وقتاً يعلمون يقيناً أنه على محتوى تافه.
والحل في رأيي، أن يدرك الناس أهمية أوقاتهم، وحياتهم، وخصوصية كل إنسانٍ المختلفة عن غيره، ولا يتطلعوا إلى ما كشفه الآخرون بحماقتهم عن أنفسهم، وإنما أن يظلوا مغلقين أبوابهم، لا يفتحونها على مصاريعها لكل مَن هبّ ودبّ، ولا ينظرون إلى داخل بيتٍ كشفه أهله، هم بالتأكيد حمقى، وأنت إذا نظرتَ ستشاركهم حماقتهم.
وقد يعيش "الإنفلونسرز" دور المظلومية الذي يحبونه، وأن العالم متآمرٌ ضدهم، وأن الكثيرين "مقهور من الملكة"، لكن الأمر بسيط، قدموا محتوى أو دعونا نقُل ما نقول.
نهايةً، على الإنسان أن يدرك قيمة "الخصوصية" جيداً، خصوصية حالته، وأن يعرف أن ما يراه غير قابلٍ للتطبيق، وأنه لو انشغل بما بين يديه، سيرضى عن نفسه، وعن حياته، وعن وضعه الاجتماعي، وسينشغل كذلك بطموحه، أيّاً ما كان، دون أن ينظر إلى واقع الآخرين، الذين يدورون كل يوم في دوائر مغلقة، مفرغة، مهما امتلأت بالصور، تدور وتسحب الغرقى في دواماتها، ببحر إنستغرام.
والحياةُ يا سيدي، ليست هذه التي تراها هناك، الحياة القيّمة الحقيقية هي تلك التي تسعى فيها، من بيتك كل صباح، وإلى عملك حتى المساء، وإلى جامعتك بين هذا وذاك، تلك الحياة التي تتغبّر فيها، وتتعرق، وتظهر حُلواً رغم ذلك كله، شاعراً بجمالك الحقيقيّ لأنك راضٍ وقنوعٍ وطموحٍ في الآن ذاته، إلى أن تكون إنساناً، لا "حساباً" في حياة الناس.


يوسف الدموكي​